• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : رواية "المدينة بدم كذب " للروائي الجزائري أحمد ختاوي تترجم إلى اللغة الفرنسية .
                          • الكاتب : احمد ختاوي .

رواية "المدينة بدم كذب " للروائي الجزائري أحمد ختاوي تترجم إلى اللغة الفرنسية

 

أنهى الأديب المترجم  الجزائري ابن آدم عبد الصبور  ترجمته  إلى الفرنسية لرواية  " المدينة بدم كذب " للروائي الجزائري  أحمد ختاوي

استغرقت  حسب المترجم  ترجمتها  أزيد من  سنة  ، ويتوقع أن تطبع بإحدى دور النشر بفرنسا

 الاتصالات جارية

في هذا الصدد  حسب ذات المصدر /

هذا وقد  اختار لها المترجم  هذا العنوان  بالفرنسية :

                                             La Cité des Leurres                                            

فصل من الرواية

تنحى عن وجهه زخرف الكرز ، مات وهو نائم فوق طيف الماء ،، وفي مدينة الله في الماء .. ..
 يسوقها طوعا وكرها إلى سوق الماء.. يبيعها ماءً وتسبيحا  وهي غارقة في تسبيحها ..يستوقفها بباب (( الخبز )) يعجنها للمارة صدقة  من فُتات عجائن المطاحن .

 كل المارة  طاعنون في السن ، ما عدا  الجار المحاذي لجاره المحاذي لجاره الألطف  من شمس الربيع ..هو ذا جاره الألطف من نفسه . حمله طوعا..حمله كرها ..وحملته زوجته الطبيبة الطيبة طوعا وكرها أيضا..
 وساقه سلّم العمارة إلى الطابق الرابع حبا في مدينة الله في الماء ..في الخبز الذي يختلي بالماء...
كل ما في الماء حي لا يموت ..ما عدا الذي تندمل جراحه..وتتوزع أفراحه بين الخمائل ..ويصعد إلى اليابسة من مدينة الله في الماء . وكل ما في الماء يسبّح لله الواحد القهار..
وخرقة (( بالية )) من الخبز ، كالقماش الرث  على ظهر ثري  يعشق ( الموضة) حتى النخاع والثمالة ..ويعشق آخر صيحات الملابس .

ظل يعشق سطح الماء ..يطفو كالزيت ، وفُتات القمح والفرح  والحزن معا..ويتم السنين والسنابل العاقرة ....
 وتوالت الدقائق ، وهي قابعة  على صفيحة من  ماء ..تدنو تارة منه ، يشتمها .يهشمها ..تنصرف ، إلى أن جاء ((الفيتامين )) .وجاءت ْ دقائقه الحبلى بالعوز .

 لاهثةًٌ جاءت  ابنته ( أمينة) من أقصى ( باب الجماعة ) في قريته ( بوسمغون)    تتأبط فرحا طفوليا ..ومعايير (ابتسامة) تطفو على شفتيها ، غيّبها يُتم  التستّر تحت جنح الليل ..وغيبها سؤال محيّر حتى ( الشفاعة ) ..اا.. كان سرا ..وسحرا ..ومفاتيح لقفل كان يسرقه كلما سنحتْ  له الفرصة من (صدر) أمه العجوز التي تصلي كل صلواتها بالفاتحة وسورة الإخلاص ، ليفتح  صندوقا صغيرا تختزن به رغيفا من الشعير .
 كم كان  مملوءا بالنرجسية وباليتم  والعوز أيضا ..وكم كان يختال  عندما يسرق المفتاح من صدر أمه ، يسرقه ليلا ، لأنها كانت تحكي له على مدار الليالي العجاف (تقصٌّ) عليه  حكاية ( الصدر)الحنون ، وهي قصة شعبية قريبة من الخرافة، يذكر مقاطع من فصولها: أن صدر أم كانت        ( تطعم)  ولدها حليبا ، أي ترضعه، فتحول هذا الحليب مرة إلى قماش ، لأن الطفل كان يبكي كثيرا وأن أخاديده كانت حمراء مثل ( الصابون ) الذي ينظف الملابس في عز الشتاء البارد ، حيث لا برد إلا برد الله ، هكذا  كانت تروى.تُروى ، وتُسرد الحكاية  في جنح الظلام ، ( بكل هذا الخلط )  ..   
    تتفاعل مع السرد الخرافي ، فيغتنم  الفرصة ف(يدس يده) إلى صدرها ، ويسرق المفتاح . يسرق فصول الحكايا من جذورها ..يسرق ملاذ الآخرين ،في جنح الليل ..حول ( كانون ) يأكل حطبا يتيما جُلب من سفوح الجبال اليتيمة ،بجبل( تمّدة) الشامخ  في قريته بوسمغون ..كان يسرق أيضا  صمت ابنته ( أمينة ) من جذوره ، يوزعه  كلمة طيبة ( وصدقة جارية ) على المارة ..وعلى الأثرياء خصوصا .. كان يقول لإبنته ( أمينة ) :

ما هذا الذي بيدك يا أمينة ؟
 - ((فيتامين ..فيتامين ))  وشيء من ( الصدقة الجارية ) يا أبي .
 .ببراءة العوز .. قالت : اسمعوا وعوا ...هذا اسمه (( فيتامين )) لا تمسوه بسوء ..ولا توزعوه  إلا بمقدار ((كيل)) كل ثلاثة أيام ..وما بينها . كل الناس (( صيام )) فهمتم.؟
قلنا –نحن المارة - كالتلاميذ: نعم ..نعم .. وتطاول فضولنا ..
انصرفتْ أمينة تغيّر ثيابها  ببيت أمها وأبيها ..عادتْ بلباس مغاير تماما..
(( شيك )) صاحت أختها زينب ..(( شيك )) أمينة  ، أنك في مثل لياقة وأناقة (( اليتامى. (( شيك )) ..شيك .. حتى أسكتناها وسط فضول عارم .: لماذا  كل هذه (( الشياكة)) ؟
قالت: (أمينة) : هو ذا اللباس  المناسب لاستقبال الضيوف .
فهمنا على التو ، ما كانت ترمي إليه من خلال تغيير الثياب .
وكنزنا فضولنا.
اتجهت مباشرة إلى مدينة الله في الماء . تطعم ( ضيوفها) بالفيتامين .. فيما صاحتْ : من أطعمهن بهذا الخبز ؟
- أنا يا بنيتي ..
أشاحتْ عني  بوجهها . قلتُ اللهم  قدّرْنا على العمل الصالح ..وانكمشتُ في عباءتي  الرثة ..لم أنبس ببنت شفة ..خوفا من ملاحظات وملاحقات أخرى ..لكنني ظللتُ أغمغم ، وأُخضِعُ((أطعمهن)) إلى قواعد الصرف والنحو ..وقد علق في ذهني  أيام كنتُ بالكتاتيب (الكتاب) ، وكان السي أحمد بلقاندي  بالمشرية يدرسنا  قواعد النحو الصرف ..من كتاب (( النحو الواضح )) استعمالات (( العاقل )) وغير العاقل ، ورسختْ في ذاكرتي  أن  نون النسوة  أو (هن) على وجه التحديد  لا تقال إلا للعاقل ، كأن نقول مثلا : (( هن أكلن الخبز  وهن جائعات )) ، أو كأن نقول مثلا : (( هن سحقن دقيق الأثرياء  لقاء حفنة دقيق لإعالة أولادهن  المعوزين )) أو كأن نقول  مثلا: (( هن  يأكلن الخبز من القمامات والأثرياء  ينعمون  . أو يعيشون  في رغد العيش )) . إلى أن ساقني وهمي ، وربما  يقيني إلى أن كلمة (( فيتامين )) و(( النون الأخيرة ))  ربما تكون للعاقل ، كنون النسوة ..أو تكون ( نحويا) ( نون التخنث) .هذا ما ذهبتُ إليه ، يقينا أو شكا..إنما هذا ما وصلتُ إليه .

تجمهرتْ مداركي ..وتظاهرتْ  سلما أمام مدينة الله في الماء ..حبلتْ ظنوني في مدينة الله  في الماء ..تلوتُ قربها ما تيسر من آيات ، وأذكار الصباح والمساء ..معا ..جمعا وتقصيرا وقلتُ اللهم أرزقني صبرا وجلدا ، ودثرني برحمتك يا أرحم الراحمين ..
قالت ساكنة الماء ،، في مدينة الله في الماء : أمين .

 **********
..ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية ..وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات ..وبعض من التمائم تبرّكا بولي القرية الصالح  .  أنشدَ وهو ثملٌ : ((ألالة لا ميرا هات الجاوي هات البخور  ‏))   الجزء الثاني :                 ونفرَ من
 (("لقناوي أمشى للسودان ..جاب خاتم لقناوية ))."فوق الوجه المنفي مظلة الحاجة خضرة ، زوجة سيدي كاسي ، بنت المخفي- المنفي -  تذكّرَ وهو ثمل ٌ الفنان الجزائري سعداوي صالح :"  قولوا لأمي ماتبكيش – يالمنفي" – ولْدك رايح ما يوليش – يالمنفي .".
استيقظ البرزخ في طيفه ..ليلمح ظل الأشياء  ورتابة الدهر ..ووريقات الصفصاف الصامد ..استفاق على نقر الإسكافي في حوانيت (ايناضن ) ..وأولاد موسى في بوسمغون ..قريته ..
كان شارع (لاقوت دور بباريس ) يعج بالمهاجرين والمغاربيين ..وسوق : كليونكور) أيضا ..
برز الزبد من كأس الخمر ككأس صحراوي تماما  في الجانب الأيمن الأقصى  لحانة محمود في ( لوفالوا) بضواحي باريس ..

الرحلة من الذات إلى الذات  مسافة البرزخ ، وأغنية  المطربة الجزائرية( الغالية ) : (  يا طيارة طيري بي ) تصعق الآذان ..تدور في الحانة أصداؤها مثلما دار  حمار ( أولاد كمية ) في بوسمغون ذات موسم حصاد ظافر دورته السابعة أو التاسعة ..وهو يطحن  (إمندي ) القمح  في بيادر القبة ، إحدى بيادر القرية المفعمة بالفأل لدى أهالي القرية.. أيام كان في ( البلاد ) يعبث بالقمح ...يلعب لعبته المفضلة  قبل أن يهاجر إلى فرنسا عبر ميناء وهران دون تأشيرة دخول قبل استقلال الجزائر سنة 1962..فيما كانت إذاعة باريس  في الحانة تبث  أغنية  هجينة للشيخة الرميتي الجزائرية..تلتها أغان  لدحمان الحراشي ، أونريكو ماسياز ..وشارل أزنافور ،  وجاك برال ..أعقبها ربط إذاعي خفيف  للمذيعة مريم عابد .                            
****
  مشيئة الدخان في الحانة قدر  اللامعقول في أصداء ذباب  ظل يحوم  حول شطيرة  لحم خنزير  كان محمود  يطهوها فوق نار فاترة ..على فحم خاص ، من نوع (النوع الرفيع)  لتقدم طازجة  إلى العربي  القابع  في أقصى المصرف ..شواربه  المصفرّة من كثرة التدخين  ترتجف  ..فيما يداه تدقان ببطء ،و على وتيرة إيقاع شعبي  من  نوع ( الهداوي)  على جانب المصرف وهو يدندن ( يالرايح وين مسافر  تعي وتولي للمطرب الجزائري ..: دحمان الحراشي.زونا ( المتوسّطية ) ( الخادمة)  لم يحن أوان  دوامها بعد ، تبدأ العمل اعتبارا من الساعة الخامسة  مساء ، إلى مطلع الفجر أو أزيد ..فهي تتكفل بطاولات القمار ..هذه هي المهمة الموكلة إليها من قبل محمود  صاحب الحانة ، منذ أن اختارها خادمة بالحانة ..في مطلع الستينات لما تتوفر عليه من دهاء وخبث ومكر ، ولاعتبارات أخرى ..
لم يكن من عادتها أن تعتاد  الحانة في فترة الصبيحة ..هذه المرة نسيت ْ شيئا ما  جاءت من أجله  لاهثة ، وقد ساورها الشك  أنه ما يزال  محفوظا في مكانه ..سالما معافى ..
دقائق الصبيحة  انزلقت  من مخيلة العربي ..سافرت ْ إلى رابعة  العدوية ..وهو يرمق زونا ( المتوسّطية ) تدلف  الحانة  بقامتها الهيفاء ..  وخانتها ( الوضاءة)  وسط وجهها  المكوّر ..الخالي من التجاعيد ..رغم إشرافها على الستين ..هيفاء ..بدينة..عيناها  كبيرتان  ، تشبه إلى حد كبير  عيون المطربة الأردنية  سميرة توفيق ..، أو عيون المها..الاسم الذي يناديها به  رواد الحانة
تحفظ أغلب أغاني سميرة توفيق عن ظهر قلب ..، مثلما تحفظ عن ظهر قلب أيضا  أغاني الريف المغربي ، وخاصة الشيخة ( الحمداوية ) ، هذه الأغاني تساعدها  في تموّج  خصرها ، وهي تروح وتجيء في خطوات مترنحة عبر طاولات القمار ، حيث توزع مقاطع من أهازيج الحاجة الحمداوية وسميرة توفيق على أطراف الزاوية  المخصصة ل((لقمارجية )) من كل الشرائح .. تُرافع ُ الدقائق  في هذه الزاوية للأزمنة الغابرة ..ولمسارات التاريخ ..ويرافع ُ ( الذباب )  العائم  بالأطراف لموسم عراجين البلح ..في المغرب وفي الجزائر وفي تونس ..ودولة الدولة السنوسية  في ليبيا قبل أفول الستينات ..طنين الذباب العائم  يرافع ُ أيضا للمهدي بن بركة ..إبراهيم سرفاتي ..,إيديت ْ بياف  على شفاه ( القمارجية ) .
زمن الصبيحة ركنٌ من أركان التاريخ في مخيلة ( العربي ) القابع دوما في أقصى يمين المصرف ..وهو يتأمل خطوات زونا ( المتوسّطية )، شطيرة الخنزير  ما تزال  تشوى على صفيح  نصف ساخن ، على نار فاترة .
وترتجُّ الصبيحة .غليان محمود قفلٌ لمفاتيح المساء القادم ككل المساءات والمساءلات،  ومضايقات الشرطة أحيانا ..عهد الخديوي يتردد هو الآخر ، كما يتردد  أيضا ذكر ُ قاسم أمين ، على شفاه القمارجية ..وعلى لسان العربي أحيانا . زونا ( المتوسّطية )لا تفقه في الأمر شيئا ..فتكتفي بابتسامة مجاملة  عندما يصعقها القمارجية بهذه الأسماء ..سخرية (برناردشو) قدر المألوف.ومهاترات ( روميو وجوليت) قدرٌ أيضا للمألوف ..في زاوية المقارجية . تنبعثُ (ولاّدة) من أقصى المصرف ، من فيه العربي القابع – مردفة ببنت المستكفي  لأبن زيدون. تثير  التفاتة لافتة من زونا ( المتوسّطية )، ما تفتأ تغمغم بلهجة مغاربية  أقرب ما تكون إلى لهجة الريف المغربي : ( سكران ويعرف باب دارو ) ،
- صح يالعربي خويا ..راك تعرف بنت المستكفي القزانة ( العرافة )
-نعرفها يا ولادة ..- أشكون بنتها ؟
- بنتْ الأجواد ..يا سميرة توفيق ..
- هكذا أريد أن تناديني. يا لعربي  خويا .
-  أمرك ..
********                                         
 ( مفاتيح الغيب) لأبن العربي ..أثلجتْ طنين الذباب الذي يرافق رتابة الصبيحة وتأملات العربي ..والنظرة (الإستشرافية لمحمود ، مالك الحانة ..خلو الصبيحة من ( فصوص الحكم)  لأبن عربي ..خدرتْ خطوات زونا ( المتوسّطية )وهي تتجه مباشرة نحو العربي .نادته: ( محي الدين )
رد: أجل يا ولاّدة بنت المستكفي ،عرافة الريف ..تراشقا بالنظرات ..كان طنين  الذباب يقترب من شطيرة الخنزير التي ما تفتأ  تشوى  فوق الفرن ..وعلى نار باردة ، فاترة ..
وكانت الصبيحة بلا شطائر ، لحم الخنزير ،أصابه شيء من  الأرق فوق الجمر ..ومن الدرجة القصوى ..فهي لا تصلح للأكل ..
طيب قالت: زونا ( المتوسّطية ) للعربي :
هل وجدت شيئا ما ،  نسيته البارحة فوق الطاولة المحاذية لمخدعي..
-  هو محفوظ لدي ،يرد العربي ويداه ترتجفان .
وكما تاب  أبو نواس في آخر حياته  تتوب الدقائق الزاحفة نحو مساء حانة محمود الإستشرافية .
تخترق نظرات العربي  أجزاء كبيرة من جسم زونا ( المتوسّطية ) ،يفحص بنظرة ثاقبة تنمّ عن مكنون بأغوار مشاعره ،،تتوهج شواربه.. ترتعد بعض أوصاله.. فيما زونا ( المتوسّطية )  ما تزال تنتظر رده  على سؤالها..
..وأفلت الصبيحة كنجم في فيافي زاهدة..
أردف العربي :  لماذا يا زونا – بنت المستكفي-  يا سميرة  غيّرَ أتاتورك مصطفى كمال الحرف العربي باللاتيني ..وهو مؤسس الجمهورية ، وأول رئيس لها سنة ؟ ؟ .. 1923
- ذاك تاريخ يذكرني بميلاد أخي مصطفى بالريف المغربي ، لم يعمّرْ طويلا ، أصابه (الجرب) فمات إثره ، ترد زونا ( المتوسّطية )  بابتسامة  من لا يعرف جوابا لسؤال محرج ..
- برافو عليك  يا مولاة الخانة..خذي أمانتك . ولا تنسي أن تقرئي سلامي لبنت  المستكفي  الريفية العرافة .. نلتقي مساء على طاولة القمار .
- هذه الليلة  ليستْ مناوبتي ، ترد زونا ( المتوسّطية )..بخبث..
-  ومن يكون خليفتك إذن ؟
- محمود بذاته وصفاته ..( ولد أبلادك ) .
أستجمع قواه  ،غادر أقصى المصرف ، فيما محمود ظل يرشقه  بنظرات حادة ..سعال حاد ارتوت به أرجاء الحانة، اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها  وهو يتأهب لمغادرة الحانة.
محمود في وله:  وشطيرتك المعتادة ؟
-  أعطها للقطط يرد العربي بنبرة حادة ، وهو يغادر الحانة، ملوّحا باليد اليسرى : إلى مساء هذا اليوم ..يستوقفه خبر عاجل بمحطة   (تي .آف 1 ) الفرنسية : (( مجموعة  مسلحة في الجزائر تغتال رهبانا بضواحي البليدة )) ..وسلطات البلاد تشتبك مع أخرى في منطقة الأربعاء بنفس الولاية ..تكتف قوات الأمن من عمليات تمشيطها في أدغال غابة ( الأخضرية )  بحثا  عن معاقل الجماعات الإسلامية .
يرشق التلفاز  والمذيع بنظرة ثاقبة ..يتنهد دون أن يعلق ، وينصرف.
إبلٌ تطأ مخيلة العربي .
..وترتسم الصبيحة  في تجاعيد زونا ( المتوسّطية ) التي لم تبرح الحانة..في مخيلتها سلسلة ( جبال الأطلس ) التي تشق المغرب وتونس والجزائر ...
صراصير تتكاثر  تحت سفح الطاولة  القصيّة بزاوية ( القمارجية ) ..تتكاثر ..تتباهى  أمام الحشرات الأخرى . فأرة سمينة تنط كأرنب غير مبالية بالحاضرين ، تختطف شطيرة  الخنزير أمام مرأى محمود  الذي لم  يجد بدا من ملاحقتها بإحدى زوايا ( القمارجية ) ، إذ آوتْ إلى جحر آخر...بإحدى زوايا ( القمارجية )  بالحانة .
يرتسم الرصيف المحاذي للحانة لوحة ً زيتية في تجاعيده ..يرفسه العربي برجليه .( في مخيلته )  تاريخا.. وحقبة تاريخية برمتها ..ينفث ما تبقى من سيجارته ..يعود للحانة في هرولة . أطرافه تركلُ ظهره المحدودب .. ويذوب ما تبقى من الدقائق في طيف هجير  يتوارى  في كنف الشك بأن  انسلاخها يكون  قد ذاب في شريحة الخنزير ..
 
وتتدحرج  السويعات ..والأزمنة ....
فيما يقبع تسربل دقات  صمت الصبيحة في هرم الحديث عن مفعول  الصفح عند محمود ونظرات زونا ( المتوسّطية ) .. ميعاد المساء المزمع يصعقه .
حنين السنين  يعاوده ، يجذبه  نحو ملامح  بدت ذات هجير  في رائحة بوسمغون وهو يركل تيسا  أبى السير في أزقة مظلمة .
خليها لربي ..قال ودلف الحانة دون أن ينبس ببنت شفة .
*****                                 
شطيرة خنزير أخرى تتدحرج على نار باردة بنفس الفرن ، لمحها من بعيد ، صعقه المساء الساطع  في مخيلته وهو يضع الخطوات الأولى باتجاه الحانة ..قلنسوته اليهودية  تعبث بها نسيمات هبتْ فجأة ..يضع يده اليسرى عليها ، ويلتقط شرارة تفكير سافرتْ به إلى صديقه محمد الذي رافقه من مدينة( جريفيل) إلى مرسيليا عبر باخرة رثة ..يستطلع أحواله  في ( لاكورناف) ..لملم شذرات تفكير  أفلت من مخيلته ..استحضر مساره ..واستحضر  احتمال وقوعه أسيرا من لحظة لأخرى  في يد الشرطة
الفرنسية ، لتماديه في تعاطي المخدرات  والسطو على أمتعة المهاجرين وبعض دراهمهم .
يلج الحانة..ينتهي إلى أقصى المصرف دون أن يحيي أحدا.. زونا ( المتوسّطية ) كانت هناك تنظف أجزاء الحانة المقابلة  لمكانه المعهود ..تبرقُ في اتجاهه  ابتسامة خبيثة  أدرك كنهها  قبل أن تصله ( برقية مشفرة ) غزر نظرة ثاقبة  في اتجاهها  وأومأ للنادل أن  يترع كأسه بجرعات ( ريكار) ..ففعل ..
ثملت اللحظة  في عيونه ..تفتقت أمانيه  في كأسه المترعة ..رخو اللحظة البائسة  يستدرجه إلى متاهة الغرق في كأس مترعة ب(الويسكي) ، فيما كان النادل  يمده سيجارة  محشوة  ويهمس في أذنه : ( هذه هبة من زونا ( المتوسّطية )..ما زال الخير القدام ) ..
امتطى صهوة مخيلته  ولفيف السيجارة  المحشوة يلف أرجاء الحانة دون أن يعير أدنى اهتمام لزونا ( المتوسّطية )وهي تطهو  على الفرن ..اقترب من النادل :بصوت مبحوح  تضايقه (جرعات) ( الويسكي ، قال:- ( لمن تلك الشطيرة )؟ . - زونا ( المتوسّطية )  هي التي دثرتها كما ترى بقطعة فلفل حار..لا شك أنها ( وسكت) .. - لعنة الله على المعتوهة ،رد العربي بصوت صارخ ، افتك التفاتة حادة من زونا ( المتوسّطية )التي نصبت المكنسة على إحدى الزوايا..وهرعتْ إلى نفخ الجمر على الشطيرة وهي تدندن  إحدى مقاطع المطربة الشعبية المغربية : الحاجة الحمداوية . العربي (أفهما طايرة ) ، فأفتك جرعة من ( ريكار) جاف  بدون ماء  جرعة واحدة  ، أردفها بنفس من سيجارته المحشوة . امتص اللحظة ..سكبها في لفح الهجرة والهجير ..في منفاه ومنفاها ..خنقه  صياح ( الباعة) من تحت ( المصاريف) .. وكواليس الحانات  وأزقة ( بارباس) ..وبعض مدا رجها ..سكب اللحظة في ( ريكار) اللحظة بدون ماء .. وأتعاب المنافي .. تطاول عليها ..وتطاولتْ عليه ..
لفهما ذات ليلة لحاف مشترك ..سكب حاضرها فيما تبقى  من زبد في كأسه الثانية  التي أمر النادل بملئها بدون ماء ..
فيما علق بذاكرته حديث ( المتن) و( النص الغائب) (امتصاص النص) ..( الاستقراء)  ونسخة من ( البؤساء)  لفيكتور هيقو كان قد أهداها إياه  معلمه  الفرنسي ( دوفواشال) بالقرية وهو ابن التاسعة من عمره  دون أن يدرك وقتها معنى الهدية  ولا مضمون الكتاب ، فاكتفى بمدها للحاج الميلود  الحوانتي  الثري بالقرية ليلف بأوراقها الكاوكاو والحمص  للباعة الأطفال ..وقد كان من زمرتهم .
استوقفته ألفية ابن مالك ، والأجرمية ، وما علق  في ذاكرته من القرآن الكريم ، وقد كان يحفظ الجزء الأكبر منه (حوالي 45 حزبا تقريبا)   تلاشتْ كل هذه الآيات من ذاكرته ..استوقفه ( غسّان كنفاني ) على الرصيف الآخر من الدنيا..كما استوقفته ( أرض البرتقال الحزين )  وهي منفية  بين مقابر الأدوات القديمة و ( لوالب..خوذة عامة .. وشطيرة خنزير .. وعصير أطياف ..وبرتقال عائم في أكواب مترعة ) .
ضم اللحظة  إلى صدره .
عانقها بشوق في شوق كمن التقى بغريب تائه في الأوحال منذ أمد بعيد ..
استجوب اللحظة  مثلما خضع عدة مرات لإستنطاقات الشرطة ، ولم يكن يحمل إلا كتبا مهترئة لكتاب الرومانسية والانطباعية والكلاسيكية .قال للحظة والكأس الثالثة مترعة :
(( ..خيّريني  يا لحظتي  العزيزة : البطاطا في الضفة و((أرض البرتقال الحزين )) في الأرض الأخرى ..وشطيرة الخنزير على الفرن تطهى ؟ ..أي هذه الأشياء تختارين ؟ يا عزيزتي – آه- نسيتُ ، أضاف : حذائي  أوقعه الملل في الملل ..وتقطع . وكذا  قلنسوتي الملازمة لرأسي ..؟؟ .
الصيف على الأبواب ....وفلسطين في خلدي ..اختاري يا عزيزتي : - البطاطا- ماء اللحظة-  غسان كنفاني – أم شطيرة الخنزير .أم مدى قادمٌ هذا المساء  على طاولة الخمار ؟؟؟ ..
كانت اللحظة تحتضر.
لم تجبْ ..ركب العربي هول الصعقة ..لأن اللحظة كانت خرساء بكل بساطة ..
يتمتم وهو يطلب النادل سيجارة محشوة ...
*****                              
المكنسة منتصبة على الحائط كتاريخ هرم .
يبحث عن استقامة .. زونا ( المتوسّطية )ما تفتأ تنفخ الجمر على الشطيرة .. المسافة الفاصلة  بين أقصى المصرف والفرن مسافة توصل بما فيه الكفاية ( السمع َ) .. لأهازيج الحاجة المحداوية التي ما تفتأ تطلقها مصحوبة ببعض الإشارات والآهات الومضية وهي  تتناثر أشلاء وشظايا في أعماق العربي الذي (التقطها) بمجرد أن جذب نفسا من سيجارته المحشوة ..
يلتقطها برقيات مشفرة ..ورسائل ومضية ..
(( على سعدي لبستْ ( الطابلية ) في بلاد ( الناس)  ما نخليكش يا خويا أطيح..كانت الصرخة  الأكثر وقعا  في نفس العربي ..الذي (زارت) مخيلته في  ليلة باردة حين دثرته  أثناءها زونا  وتجردتْ من صفاتها؟ .
حين انسابتْ دموعها وهي تبلل اللحاف الشفاف
..وحين عاودها الحنين والأرق ..والهيجان ..؟؟   
    ونسيتْ حكاية النخلة الباسقة ..في أقصى الجنوب المغربي..وبالضبط في منطقة ( فيقيق ) .
الشطيرة  ما تزال تطهى على الفرن .. والمكنسة  ما تفتأ تتوسد الحائط ..فيما دخان السيجارة المحشوة  يستبق تنهدات زونا ( المتوسّطية ).. وهي تلامس خصرها ....تمرر يدها الهزيلة عبر مناطق جسمها العامر..وقد أرخت أهدابها.
تقفز اللحظة الخرساء نحو مداها..نحو أمسية ( طاولة القمار) المنتظرة ، ..وتقفز زونا ( المتوسّطية ) ، تدك البلاط  في اتجاه المكنسة . ترفس  ما تحتها..تقبّلُ المكنسة ..فيما العربي يلاحقها بنظراته  الثاقبة ..بقية الزبائن  القلائل مشغولون بلعبة ( ألبيار) على الجانب الآخر ....
وتقبل بعنف ( أعلى) المكنسة ) .
أثارتْ انتباه لاعبي ( ألبيار) ..وهي تدندن : ( على سعدي  أرفدتْ النشاف.. ولبستْ الطابلية .. ما نخليكش يا خويا العربي ) .
كان هذا التأوه نداء جارفا للعربي الذي تمكن من الظفر بابتسامة من زونا تبدو صادقة ..فيما كانت الصرخة تجلجل كرصاصة  أصابت الطريدة ، اخترقت أغواره .. كانتْ إيذانا لشيء ما ..يصيب القطط أحيانا..
..وكان الصوت يتوارى في الكأس المترعة ..يأسر زونا ( المتوسّطية )التي قبّلتْ بحرارة رأس المكنسة مرة ثانية ..وهي تعدو ..خطوة خطوة نحو العربي  القابع بأقصى المصرف ..صعقته بنظرة ثاقبة ، دنتْ منه  إلى أن لامستْ ركبتاه  المرتعشتين ثم ..تناولتْ كأسا ..طلبت ْ النادل كأسا فارغة ..؟ امتصتْ لعابا علق  بأقصى يمين شفتيها ..زفرتْ ، حيث كان النادل يدمها كأسا أخرى مترعة ً ب( الويسكي)  وسيجارةً محشوة ملفوفة في قطعة  جريدة. .
امرأة ٌ صلبة  كصخرة في جبال أثقلها الجفاف ..لا تصيبها الثمالة بسهولة ..ولا تموت فيها الرّعشة ولا الأطياف ..تناولتْ موسىً صغيرا من مئزرها ..مررتْ شعرها الأسود الغزير ، بالرغم من تقدّم ِ سنّها على جسدها  الباهت وجزء من كتفها الأيمن ، فأيقظتِ الدم القاني من سبابتها ليملأ ربع الكأس الفارغة .ا ناولتْ العربي جرعة منه .لم يمانع .
قال : ها هو ذا عرقي الغزير  يختلط بالدم القاني ..وهاهي  النخلة الباسقة تزداد علوا وشموخا  نحو السماء ..أردف : ( أطعمينا يا زونا من سنابل النخلة الملقحة بالتمر الصحراوي ، علنا نغيّر  مكان اللحظة)) .
ردتْ بوجه محتقن :
(( أتريد أن يحدث لنا ما حدث لأدم وحواء ..ألزم حدودك  أيها الرجل الأعزب ، وإلا قذفتْ بك جنون الأرض إلى جزر الوقواق ))) ..
تسمّر في مكانه ، راح يعض سبابته  وهو يزمجر ككلب مسعور..ا وتوارى تحت معطفه الذي غطى به قلنسوته ..يهلوس كلمات مبهمة ....وعلا شخيره ..وهو يقظ .
قال لها: (( دثريني بمئزرك ِ يا زونا، قد صرتُ الآن خصيّاً ..
عرفتْ الآن أسرار النخلة .زامنه الخوف من مصيره ورجولته  الضائعة وسط نهدي امرأة بحجم ظنونه  ومعتقداته ..حاول الهروب ومغادرة المصرف .لم يقو .
كانت النخلة الباسقة  تغطي كل المنافذ ..وكان الدم الأحمر  القاني يفيض من كل الثقوب ..ا ارتدى رجولته ..حرّك  عضلاته  المشلولة ..حاول السباحة في الدم القاني ، لم يستطع  تخطي حواشي المعطف والمئزر ..ا انكمش مذعورا  كشيخ هرم  انهارتْ قواه  من كثرة الحرث وخدمة أرض بور بوسائل تقليدية .
أحسَّ بأنه  أجرم حينما جرع دم أخته وقد ألفه منذ مدة..في حين لازمها الفرح والنشوة ، وهي تجلس بقربه ..تغازله ..تمرر يدها الناعمة فوق صدره النحيف ..شعر بهيجان ينتابه  من جديد ..قاطعها : لا تنسي شطيرة الخنزير  وحبّة الفلفل الحار ،
- دعها تحترق مثلما احترقتْ شطيرتك ، وتحترق الآن  أشلاؤك ودسائسك  أيها المعتوه – قالت - ..
*****                                               
 ..وتحلقتْ حوله شجرة  بأفنانها ، كانت قد ملأتْ فمه ، وتحولتْ إلى موسم خصب لا يعرف الجفاف عندما أكل ثمارها أيام كان مرؤوس قضيته وما فتيء ..أحس أن النخلة الباسقة تزحف نحو كأس الدم ، راح ينطح جدعها ، امتص نواياه..وامتص ما فتيء في سيجارته المحشوة ..قفز مذعورا من كرسه  بأقصى المصرف ..خرج إلى الأفق  الواسع خارج الحانة  يتبختر  في نشوة عارمة .لحقته المرأة الصلبة . التفت صوبها : (( أستري عورتك إنك عارية ))..
رجعا على التو إلى الحانة ، لم يجدا  النادل بمكانه..بحثا عنه ..
طويلا..ضيّعه التيه  في أرجاء سيجارة محشوة ..

صنعتْ تيها موازيا..بصقا على الأرض
انفلق العشب  والفقاقيع ..مضغا العشب ..بصقا مرة ثانية على الأرض .كان  العشب والخصب يغطيان جسم زونا العارية .
قالت : لن أفارقك يا لعربي حتى نتبيّن  أمر اللحظة الغامضة ،، العارية .
رد بانتشاء: (( الآن تبدو اللحظة  صافية )) .عانقته بحرارة .
سألها : والذي قالوا عنه (( قُتل غدرا)) هل ما يزال يعاودك أنينه ؟ .
-  لا ، كنت مخطئة،مات شهيدا ..
غيبهما الزحام في أكبر رشفة دم ،، وفي قطرة (( ويسكي). لا تقل ، أردفتْ (( المهدي بن بركة)) ..
ابتسم العربي  ملء شدقيه : أرجوك لا تصعقيني بعبّان رمضان ، أو مفدي زكريا ..على نخب ابتسامة  صادقة هذه المرة  تناولا كأسيهما المترعتين بسرٍّ دفينٍ  ، ظل يعتلج في  الشطيرتين المحروقتين ..ا
امتص كل منهما لعابه ..نطقا بصوت واحد : (( لهلا تربّحْهم )) ونطقتْ المذيعة الجزائرية  مريم عابد : هنا إذاعة باريس ، ونطق محمود "كل هذا مسجل " ..زمن مريم عابد آفل ..ألم ترشق  يا لعربي بنظراتك مذيع "    تي..آف ..1  ، وهو يسرد الأحداث الأمنية في الجزائر ..وأنتَ  تغادر الحانة .
-  خدعتني يا محمود ..لهلا تربّْحك ..
-  خذلتك مواقفك يا خويا العربي ..    
-  لهلا تربحك ، قالها مازحا ..
****                                                     
رتلٌ من الشباب يلج الحانة..ثم ينصرف لتوّه ..يثير انتباه مريدي الحانة ..يمّمت زونا ( المتوسّطية ) شطر الشطيرة ..الهامدة على الفرن ..أومأت للعربي  المشدوه:  أن  لا خوف من هؤلاء ، هم زبائني – وضحكتْ ..:
- اشتموا رائحة الأمانة  التي نسيتها بقرب مخدعك ، قال العربي  مبتسما .
- هم أيضا لهم نصيبهم منها.ولنا نصيبنا من شرائح  وشطائر الخنزير ، رد العربي ، وهو يغمغم :
(( قرأتك عدة مرات ، قرأتك في التوراة  وفي الإنجيل والزبور ..وفي القرآن ..بحثتُ  عنك في ماء الله .. وفي كل القارات ..تطاولت ُ على السبت  والخميس  ما عدا الجمعة ، وفتشتُ عنك  في أقبية الماء لأنجب الماء الذي يجبلني ..وينجبني ابنا عاقا ..سكنتُ أيام الأحد .. من  الفجر إلى ما وراء  الدهر ..لأسترق صخورا صلدة ..الأيام تسير لاهثة إلى الخلف ..وأنت تسيرين بلا هوادة  نحو جبنك ووهنك  المعهودين ..تغازلك  أطياف  البراري  وبقر الجاموس  القابع دوما  على قارعة الطريق .. تخافين معاكسة الثيران لك .. ينتشلك الحياء من الحياء ..، لكنك تتوفرين على (( معيار)) الجودة .. وسهو اللحظة .. وتجيئين دوما متأخرة إلى البيت لتقرئي من جديد فصول (( ود ))  الثيران ،، ووله أبناء الحارة .. ماعدا عمي (( جابر)) الذي يمقتك .
وقتما جئته ، أجيء  ونفترق لتوّنا .
- وأقرؤك عدة مرات – أنت الممنوعة من الصرف ، ومن (الطهي ) وقتما جئتك ، يجيئك  الفضول الزائد ، وتجيئي مع ( المبني للمجهول) ،يتخيل إليك  ،يتخيل إليك أنني ساعي بريد الحي ..الذي تنتظرين قدومه .. وترشقينه من كوّة القبو  بالحجارة  والقبلات وبالنظرات الساخرة .
قال القاضي : ( مثنى ..وثلاثى .. ورباع . وقال القانون ( مثنى وثلاثى ..ورباع   وفي سورة النساء  ما يكفي .. شطيرة لحم الخنزير  ما ت تزال قابعة على  الفرن ، تغطيها  حبة فلفل حار .. الحانة  خالية من الزبائن .. الذين أخلوها بموجب  مذكرة  (غلق)  كل المنافذ فيها ، حتى أجهزة إيصال  الموسيقى  والريح والهواء ..، بأمر من رئيس بلدية المقاطعة ، لأن أمرا ما مشبوها  كشفتْ عنه الشرطة .. إعلان بغلقها  لمدة ثلاثة أيام  ريثما  تستكمل فرق التحريات تحقيقها بشأن هذا (( الأمر المشبوه )) ، يذيل إعلانا  لافتا  بمدخل الباب .. العربي  يصيبه الدوار ، تصطك أ سنانه ،  وهو يرمق عون البلدية  يضع  الدبوز الأخير ، يرفسه بمطرقة  صغيرة ، .. ويثبته  بشريط لاصق .... ثم انصرف دون أن يلقي السلام  على أهل  الحارة ،، ..تصطك أسنانه ، ينفث ما تبقى من سيجارة .. ينفض بقايا سيجارة محشوة ، يرفسها بمنفضة السجائر ..، يغمس يده اليسرى في جيب معطفه ،  يخرج نصا  كان قد  كتبه حديثا ، لم يعرضه بعدُ على ( عمي جابر)) ، يطلب من النادل نبيذا وسيجارة محشوة  أخرى ، وموسيقى إيحائية تصويرية ، .. هذا الأخير  يمتنع لأن الأمر غير ممكن ، والحانة  تحت مراقبة الشرطة ،كما ترى ، يضيف النادل : ألم  تقرأ الإعلان  ، وأن  الحانة مشمعة ، إلى إشعار  آخر ..أو على وجه التدقيق  لمدة ثلاثة أيام .. هو ذا حداد المجاملة  عند الأنظمة يضيف العربي  ، وهو  يلح  على النادل أن يضغط على زر آلة الموسيقى ليسمع  موسيقى هادئة  أو صاخبة  ترافقه في قراءة ما كتب حديثا .. - صادروا كل الأشرطة  يا سيدي ، يقول النادل في نبرة حسرة -..وسجائري المحشوة ، هل مستها المصادرة ...
 -كانت بمنأى عنهم ، يضيف النادل  مبتسما – خبأتها في جحر الفأرة  الكبرى تحت المصرف مباشرة  بعد دخول أعوان التفتيش  الأولى .. ألا أتتذكر تلك الفأرة الكبرى التي قضمت  شطيرة الخنزير
 – حسنا – فعلت – وحسنا فعلت ْ الفأرة .. شطيرة  تحذف  من مجموعة شطائر أخرى ..طيب ،  وعلى من أقرأ ما كتبتُ..هل تفهم  شيئا في الشعر ..
- لا يا سيدي ..أساعدك بالتصفيق .. عندما تنتهي  من قراءتها .. هذا ما أملك ..
- فليكن ذلك ،  أطلب منك أن  تنفخ في الجمر ..بدت فكرة  قراءتها على الشطيرة المطروحة فوق الفرن  لعلها تكون جمهوري  الغائب الحاضر ،  وربما ، تضيف كفَّ يدٍ أخرى في التصفيق ، ألا تسمع بالمثل العربي  القائل : (( يد وحدة ما تصفق – هيا-  أشعل النار  على الفحم .
- صادروا النار يا سيدي .
حتى النار صادروها ( لهلا تربّحْهم )  وما العمل إذن ؟
- اقرأها عليها هامدة ..جاثمة فوق الفرن ..ألم ترها  جاثمة .
فكرة حسنة : قدّمني لها  بشيء من الإطناب والتهليل  وقل أنني شاعر كبير .. أنحدرُ من سلالة المهلهل أول من قصّد القصائد  على وقع إيقاع النوق ،  وأن أحمد الفراهيدي هو الذي أبحر في  البحور وأقام أوزانها وأن نازلك الملائكة هي التي تمردت على الشعر القديم  وأن مظفر النواب  صديق عمي جابر . هل تحفظ كل هذا ؟
- مع الأسف لا ، يا سيدي ، قد أقول إليكم الشاعر العربي  ولد (الهجالة ) الأرملة  كما ينعتك محمود صاحب المحل ..
قل ..هذا ، هذا كاف .. كلنا أولاد (الهجالات ) الأرامل  حتى محمود ..فكرة جميلة ..هيا ابدأ التقديم ..يا ندْل .
زونا ( المتوسّطية ) تقاطعهم والتي كانت مختبئة بين أضلعه كحواء تماما  ، وقد سمعت  كل شيء . .: أنا أقدمك التقديم الكافي ..
  المهم أن  أُقدم تقديما  مستفيضا ، والمهم أن يصفق علي الجمهور .
-أتلو  ما كتبت وسأقدمك  بما فيه الكفاية وأزيد  عقب قراءاتك .
- لا .. أريد الآن .
- وأنا أقول بعد القراءة ..
طيف عابر  يحجز مكانا له بالكراسي الأمامية ، مباشرة قبل قرب المنصة  التي لم تُجهز بعد ، ..وشطيرة لحم الخنزير  تستوقف الحاضرين المدعوين ، من خفافيش وجرذان الحانة .. التصفيق  يغزو الحانة .. أطياف  تصفق  وأخرى ترقص ..
- المهم أن  أقرأ قال العربي  بوجه محتقن .. وشرع :    
        مثلما الحب لا يُجمرك
        كذلك الوطن لا يُجمرك
        مثلما الندى لا يُسرق
      كذلك الأوراق لا تُجمرك
               هذي الأفنان تورق ..  
        ْعش لها  غصنا أو تمرّد
       عش لها أصلا ..وتحدث ..
        فالجزائر.. أصلا .. لا تُجمرك
        أعرْها وجهك .. لا تسكتْ.
        امنَحْها عهدك .. لا تسكتْ
        كن مثلها . لا تُجمرك .
        تحيا الجزائر . قلها ، لا تسكتْ
حرفا..               امض    
        امض عهدا .             
امض فرحا ..     
امض فرحك الأزلي ..                                 
وأمض أملك الأزلي ..
                                         
سكبت زونا ( المتوسّطية ) دمعها في فنجان كان يسترق السمع ..اتكأت على المكنسة بإحكام كإمام على المنبر ، يرمقها  الصمت ..السائد .  ترمقها شطيرة لحم الخنزير ..دنتْ منها .. نفخت ْ فيها من رئتها هواء نقيا .. أردفته ببصق ..لململتْ لعابها ..انجذبت مسودة من مئزرها ..تعلو أطرافها بقع دم بدت بارزة على المسودة ..أطرقتْ ، ثم قالتْ ، حيث كان العربي  يصغي :
-  ظللت تبحرين .. تمخرين عباب  الشوق..
مركبتنا.
وانتظارنا بالمرفأ  الموعود .. خبز معجون ..
رحلتِ.. والأمل خمر في فمك ..
واصطيافنا  بالمربع المنشود وعدٌ ممقوت..
وأغنيتنا طفل بألف لقب ..
وأنتِ كالشمس تطوفين بشاطئنا المهجور ..
تطوفين بنا .. نطوف بك ..
نحمل الأغرودة  غيمة بلا مطر .
وشراعا ممزقا .. بلا زورق
بلا وطن .
أيا شوقنا المحمول فوق نعش الشوك ..
فوق نعش النار ..
فوق نعش الشوق .
بمرفئك رسونا زمنا نقتطف الخوف ..
أيا وطنا مغروسا في رحلتنا ..
أيا وطننا النازف ..
وظللنا نرسو .. نرسو ..نرسو ..
 نقتطف الخوف ..
نقتطف الخوف .. وغيمة محمولة على أكتافنا .. نجلب منها الخوف .
نحلب منها الخوف .
كأطفال الحي المسيّج .. في زمن الغلبة ..
ننتظر الآتي .. وحليبا من غيمة بلا مطر ..
ننتظر الآتي ..ورغيفا من بحر بلا حُفر..
ننتظر الأتي .. وصديقا من وطن بلا  ضجر ..
ننتظر الأتي ..وأملاَ  من رحلة بلا سفر..




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=10158
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 10 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19